قصة الفتنة الأخلاقية المزعومة فى سيرة الإمام البنا رحمه الله

8127 

أثناء وبعد عرض مسلسل الجماعة زعم وحيد حامد فى كل اللقاءات أنه سكت عن فضيحة أخلاقية فى بيت الإمام البنا رحمه الله وتلقف الكثير هذا الزعم واعتبروه فرصة سانحة للنيل من جماعة الإخوان المسلمين حتى أن مجلة  المصور وقتها نشرت تحقيقا بعنوان لماذا سكت وحيد حامد عن الفضيحة الأخلاقية فى بيت الأستاذ البنا رحمه الله

  ما قصة هذه الفضيحة المزعومة ؟ لا يوجد أفضل من الأستاذ محمود عبد الحليم الذى أرخ لتاريخ الجماعة فى كتابه الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ وسوف أنقل ما ذكره فى هذا الأمر بشيء من التفصيل حتى تكتمل الصورة يقول الأستاذ محمود عبد الحليم :

إن  تقدير الإخوان للأستاذ المرشد ، وحبهم إياه ، وتفانيهم في حبه ، وإثاره علي أنفسهم كان هو الشعور الغامر النابع من كل قلب ، وقد كنا نقرأ عن مدي حب الصحابة رضوان عليهم لرسول الله صلي الله عليه وسلم فكنا نظن ذلك مغالاة من الرواة حتى قام هذا الرجل – حسن البنا – بدعوته ، وتعرفنا عليه ، وسرنا معه ، و عاملناه و عاشرناه فرأينا في خلقه وحديثه وتوجيهاته ومعالجته للأمور صورة مصغرة من حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم فأحببناه وازددنا مع الأيام حبًا له وتفانيًا في حبه ، فاستطعنا حينئذ أن نفهم ونتصور ما رواه الرواة عن مدي حب الصحابة لرسول الله صلي الله عليه وسلم وأن ما رواه الرواة لم يكن مغالاة ولا تهويلا بل كان مجرد إشارة إلي معان يعجز التعبير عن تصويرها .

ألمحت هذه الإلماحة السريعة لأوضح كيف يحب الإخوان أستاذهم وإلي أي مدي يحبونه ويتنافسون في الحظوة برضاه  باعتبار رضاه من رضا الله عز وجل فهو لا يحب إلا لله ولا يرضي إلا لله … وكان للأستاذ في ذلك الوقت ولد وبنتان وكانوا صغارًا ،وكان له شقيقتان  فاتجهت أنظار الإخوان المؤهلين للزواج في ذلك الوقت إلي شقيقته الكبرى ، وتنافس الكثيرون في السعي للخطوة بهذا الشرف  وكل منهم يعتقد أن له من المكانة في نفس الأستاذ ما يجعله أهلا للخطوة  ولم يكن أحد يجرؤ علي طلب ذلك صراحة بل كان تلميحًا – وكنا نحن – من أمثالي الدين لم يكونوا بعد مؤهلين للزواج – نرقب هذا التنافس ولا نعرف أي المتنافسين سوف يحظي بما يأمل .

وأنا بحكم ما بيني وبين عبد الحكيم عابدين من اتصال دائم كنت أعلم أنه قد دخل هذه الحلبة وقد أسر إلي بذلك طالبًا مني الرأي … ولم يكن طلبه الرأي مني فيما إذا كان اختياره هذه الزوجة مناسبًا أم يعدل إلي غيرها  وإنما كان طلبه الرأي فيما إذا كنت أراه هو مناسبًا أم غير مناسب ، وقد أحسست في عرضه الأمر علي ، وطلبه الرأي مني أنه يريد يسمع مني ما يشجعه علي المضي في هذا السبيل . وقد سمع مني فعلا ما يريد … غير أني كنت أري في قرارة نفسي أن دون تحقيق ذلك لعبد الحكيم خرط القتاد ، فالطلاب كثيرون والضغوط علي الأستاذ المرشد من كل جانب وعبد الحكيم هو أقل الطالبين مالا وأدناهم مركزًا ومكانة في المجتمع ؛ إنه في ذلك الوقت لم يكن يملك ما يصلح أن يكون مهرًا فلا مورد له إلا مرتبه من وظيفته المتواضعة في إدارة الجامعة ومع ذلك فهو مطالب بمسئوليات مالية لأهله – كما أشرت من قبل – والأستاذ المرشد يعلم ذلك – … لا مؤهل لعبد الحكيم إلا مواهبه الشخصية فهو أول أخ تخرج في الجامعة وبايع علي أن يجعل مستقبله رهنا بمطالب الدعوة مع أنه كان أحوج الحاضرين وأقدرهم علي تنمية موارده لاحتياج أهله إلي هذه الموارد .

وكانت المفاجأة أن اختار الأستاذ المرشد عبد الحكيم زوجًا لشقيقته .. فقوبل هذا النبأ في الظاهر بما يشبه الرضا من الجميع ، ولكنني كنت أحس بأن هناك نفوسًا قد أصابها هذا النبأ بشعور من خيبة الأمل .. ومع ذلك فلم أكن أعتقد أن هذا الشعور سيؤدي إلي كوارث . وقد ذكرني اختيار المرشد لعبد الحكيم دون الآخرين بسعيد بن المسيب رضي الله عنه حين طلب إليه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أن يزوج ابنته لأبنه فأعرض عن ذلك وزجها تلميذه الفقير عبد الله بن أبي وداعة الذي سأله سعيد . لِم لم تتزوج ؟ فقال له : ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة .

وقد انقسم الإخوان إزاء هذه المفاجأة ثلاثة أقسام :

قسم تلقي هذه المفاجأة بالإجلال والإعجاب لأنها هي نظرة المؤمنين الصالحين حين يختارون لبناتهم . وهذا القسم هو الكثرة العالية من الإخوان .

وقسم أصابته المفاجأة بخيبة أمل حيث أخطأه الاختيار وكان يتمني أن يكون هو المختار .. وهذا القسم هو مجموعة من شبان الإخوان المؤهلين للزواج والذين عرضوا أنفسهم وهم عدد قليل .

والقسم الثالث أصابته المفاجأة بخيبة أمل مع أنهم لم يرشحوا أنفسهم ولم يكونوا صالحين لذلك لأنهم في سن الكهولة ولهم بيوت يعولونها ولكنهم كانوا يتمنون أن لا يتم هذا الزواج لعبد الحكيم بالذات ، لأنهم يعرفون أن عبد الحكيم ذو مواهب تؤهله للبروز في المجتمع ، ولما كانوا هم يشغلون المناصب البارزة في الدعوة ، فقد يزاحمهم عبد الحكيم في هذه المناصب لاسيما واختيار الأستاذ المرشد لعبد الحكيم دليل علي ثقته في هذه المواهب .

وهناك قسم رابع نشأ بعد ذلك كانت مهمته استغلال القسمين الثاني والثالث لتحقيق أغراض في قرارة نفسه أكثرها سياسي وبعضها شخصي .

ولما كانت شخصية المرشد لها من الإجلال في النفوس ما لا يجرؤ معه أحد علي النيل منه ، كما أن مسلكه في مقدرته الفائقة علي توزيع عواطفه علي جميع الإخوان توزيعا يملأ نفوس الجميع لم يتح لأحد أن يجد فيه ثغرة ينفذ منها إليه ، ولا مغمزًا يغمز به ، فكان لابد إذن من البحث عن سبيل آخر لإيذائه عن طريق ملتو غير مباشر ، وكان الطريق هو محاولة تجريح شخصية عبد الحكيم والنفوذ من ذلك إلي تجريح الدعوة نفسها . وسأعرض الآن لواحدة من هذه المحاولات كان مبعثها مبعثا شخصيًا ،وقد بدأت أحداث هذه المحاولة منذ كانت الدعوة في ميدان العتبة وبدأ الطلبة يقبلون علينا وكنا نحسن استقبالهم ونوليهم كل ما نستطيع من اهتمام وعناية وكان من هؤلاء الطلبة طالب في كلية الآداب اسمه (ع.س.أ) … استقبلناه كغيره من الطلبة ولكني رأيته مقبلا بشكل ملحوظ علي عبد الحكيم عابدين مما جعلني أرتاب فيه ، ولكن هذا الشعور لم يجعلني أقصر في حقه فكنت أعامله كما أعامل زملاءه … غير أني رأيت عبد الحكيم يوليه من العناية أضعاف ما يولي زملائه – وعبد الحكيم كما قدمت إنسان كله عاطفة ، فما كاد يشعر بإقبال هذا الطالب عليه حتى غمره بسيل من عواطفه فكان كلما قابله قابله بالعناق ، وكنت أفتقد عبد الحكيم فإذا لقيته سألته أين كنت بالأمس فيقول لي كنت عند الأخ (ع) في بيتهم … وقد أوسع عبد الحكيم له في مجلة النذير فكان يكتب المقالات تمجيدًا في الإخوان المسلمين وإشادة بهم .

لم يكتف عبد الحكيم بأسلوبه العاطفي المتطرف الذي يتعامل به مع هذا الأخ بل جاء يعاتبني في عدم إقبالي عليه بنفس أسلوبه وأخذ يذكر لي مزايا هذا الأخ الأدبية وحماسه المتأجج للدعوة وأسلوبه في الكتابة ، وأخذت أذكره بما سبق أن قلته له من قبل منذ كنا في دار شارع الناصرية وبما حذرته منه من شعور البداوة الذي نشأ عليه والمبني عن حسن الظن المطلق بكل الناس وفي كل الظروف ومن مظهر هذا الشعور البدوي من التغالي في الحب والعناق في كل لقاء وإباحة بيتك لكل من أحببته يدخله في غيابك وحضورك ، ودخولك بيوتهم كأنها بيتك ، ومعاملتك أهليهم كأنهم أهلك ، وقلت له : كل ذلك لا أرضاه ..

وقد أرضاه إذا ضمنت لي أنك تعيش في بيئة أو مجتمع من الملائكة المنزهين عن الأهواء المطهرين من سوء الظن وسوء النية .. أما المجتمع الدنيوي الذي نعيش فيه فهو الطيب والخبيث ، وقد ينقلب الطيب خبيثا ، و قد ينقلب الخبيث طيبًَا ، فلا ينبغي أن ننطلق في عواطفنا انطلاقا لا حدود له مهما سمت هذه العواطف وذكرته بوصية رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك " أحبب حبيبك هونًا ما ، عسي أن يكون بغيضك يومًا ما ، وأبغض بغيضك هونًا ما ، عسي أن يكون حبيبك يومًا ما " .

واشتد الحوار بيني وبين عبد الحكيم ورماني في نهايته بأن معاملتي " الرسمية " للإخوان لاسيما الجدد منهم من أمثال هذا الأخ تنفرهم من الدعوة فقلت له : إنني لا أعامل أحدًا معاملة رسمية كما تدعي بل إنني أعطي كل إنسان حقه في حسن اللقاء ، وكل ما أحاوله هو أن أقتصد في عواطفي ، فالمصافحة عند اللقاء تكفي ، والعناق عند الرجوع من السفر أو بعد الغياب الطويل لا بأس به ، والزيارة في البيوت بدعوة ملحة من صاحب البيت كما يقولون " زر غبًا تزدد حبًا " وكررت تحذيري متمسكًا بطريقتي في المعاملة . وغادر عبد الحكيم الغرفة التي كنا نتلازم فيها من المركز العام وهو مصر علي أنه يسلك الطريق الإسلامي الأقوم … وشاب ذو نفس شاعرة نشأ في بيئة بدوية ثم تلقفته الصوفية بأشد طرقها تصفية للنفس ثم اتصل بدعوة الإخوان المسلمين التي تضع مرتبة الأخوة في الدعوة فوق مرتبة الأخوة في الدم ، شاب كهذا قلما يعدل عن خطته في الاندفاع بعواطف الأخوة والحب التي تتأجج بين جوانحه إلا بكارثة .

وانتقلت الدعوة إلي الحلمية الجديدة ، واستمر عبد الحكيم في اندفاعه الذي كان يجد له تجاوبًا من الطرف الآخر ، ولا أدري لم كان هذا التجاوب الذي لا أجد مبرراته متوفرة في هذا الطرف بل كنت أري فيه معني التصنع وأشم منه رائحة الاستدراج ، وظللت كعادتي أسأل عن عبد الحكيم في بيته فلا أجده المرة تلو المرة ثم أقابله فيخبرني بأنه كان في بيت هذا الأخ . ومرت الأيام وأعلنت خطوبة عبد الحكيم لشقيقة الأستاذ المرشد ، فكان هذا الإعلان بمثابة إعلان حرب لا هوادة فيها علي عبد الحكيم أو قل في الحقيقة علي الدعوة نفسها ولكن اتخذ عبد الحكيم قميص عثمان . انقلب هذا الأخ الذي أشرت إليه انقلابًا فجائيًا علي عبد الحكيم وخاصمه بغير مقدمات واتهمه بأنه قد اتخذ صداقته له وأخوته معه وسيلة إلي مداعبة شقيقته .. وبغير مقدمات رأينا هذا الأخ يعلن مقاطعته للمركز العام وتبرأه من الدعوة مالم يبتر منها عبد الحكيم …

مفاجآت وجدت آذانًا صاغية من البعض  وجدت هذه الاتهامات الفجائية هوى في نفوسهم فقاموا يروجونها وينشرونها بطريقة مثيرة ،وعادت إلي الذاكرة حادثة الإفك " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ، لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم ، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولي كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذه إفك مبين "  ولما كان الأستاذ المرشد يعلم عن عبد الحكيم ما أعلم ، كما أنه كان يتوقع أن يكون لإعلان خطوبة عبد الحكيم لشقيقته آثار لابد أن تمس بعض القلوب ، فإنه لم يرعه من هذه الحملة الفجائية إلا كونها جاءت بغير مقدمات وبطريقة مفاجئة تحس معها أن أصحابها قد فقدوا رشدهم فتخلوا عن أدني مبادئ الأدب والحياء .

جاءني عبد الحكيم وهو يكاد يموت غمًا وقال لي ، لقد فهمت الآن أنك كنت علي حق ، وأنك كنت أبعد مني نظرًا ، وأنني لم أكن إلا أبله لا أدري ما يراد بي ، ولا ما يدبر لي ؛ لقد خالفتك وأخلصت لهذا الأخ وجعلت له من نفسي وقلبي مالم أجعله لأشقائي ؛ فكان يدعوني لي منزلهم وعرفني بوالده ووالدته وإخوته وأخواته كما دعوته إلي بيتي كما تعلم ، وتوالت دعواتهم لي حتى إن والديه يدعوانني دونه ؛ وكنت أعتبر والديه والدي وإخوته وأخواته إخواني وأخواتي .. ومرضت شقيقته الكبرى مرضًا خطيرًا ، ولما كانوا يعرفون عن صلتي بالأطباء (كان لعبد الحكيم صداقة وطيدة مع أشهر أطباء القاهرة وكان محببا إلي نفوسهم إلي الحد الذي كانوا يستجيبون له إذا طلبهم بليل أو نهار حيث كان دون أن يتقاضوا أجرًا ، ولم يكن يطلب أحدا منهم لنفسه ولا لذويه إلا نادرًا ، وإنما كان يطلبهم لعلاج من يلجأ إليه من الإخوان)

استغاثوا بي وطلبوا إلي أن استدعي لهم طبيبًا كبيرًا معينًا ففعلت واستمر العلاج ولكن المرض قد استفحل حتى صارت الفتاة هيكلا عظيمًا بلا لحم ولا دم ، وعلا وجهها شحوب الموت حتى إن أمها وأخواتها عافوها وابتعدوا عنها ، وشعرت الفتاة بذلك فصارت تبكي وتنعي بنفسها ، وهنا اضطررت أن أجلس بجانبها ، مع أنني في قرارة نفسي باعتباري بشرًا كأي بشر متقزز من منظرها ومن رائحتها ،ولكنني كنت أحاول أن أرفع من روحها ، وأعيد إليها ثقتها في الحياة – ولقد كان والداها وإخوتها وأخواتها – ومنهم هذا الأخ – يشكرونني علي أداء هذه الخدمات الإنسانية التي عجزوا هم عن أدائها .

قال عبد الحكيم : وبتفاني أصدقائي الأطباء في علاجها ، وبما اتبعته من أساليب لرفع معنوياتها تحسنت حالتها ، ودبت فيها الحياة من جديد … وحتى آخر يوم كنت موضع إجلالهم جميعًا ، ولا حديث لهم إلا حول اعترافهم بجميلي عليهم ، وبإنسانيتي التي فاقت ما عرفوه من إنسانية . قال : وفي اليوم التالي ذهبت كالمعتاد لزيارتهم فرأيت وجومًا علي وجوههم حتى خيل إلي أن الفتاة ماتت ، ولكنني رأيتها بخير ، وحاولت أن أعرف سبب الوجوم فلم أستطع فخرجت وأنا في حيرة من هذا التبدل المفاجئ ، واستعرضت كل تصرفاتي معهم لعلي أذكر شيئًا بدر مني فأغضبهم فلم أجد إلا تقديرًا منهم لكل كلمة قلتها أو تصرف أتيته ، فعزمت علي أن أسأل نجلهم الأخ (ع) حين ألقاه ليلا بالمركز العام كالمعتاد فلم أجده حضر ولكنني سمعت قالة سوء توجه إلي منسوبة إليه . ولا يردد هذه القالة شخص واحد بل ترددها مجموعة معينة بطريقة تشعر بأنها مبيتة ومدبرة …

ولم أصدق أنه هو قائلها في أول الأمر لكنني تبينت أنه هو مصدرها وأنه هو الذي باء بإثمها ، وأنني لم أكن حتى تلك اللحظة إلا سادرًا في حسن ظني متجللاً برداء غفلتي ولم أتنبه من غفلتي إلا الآن ، فإن اليوم الذي في مسائه قلبوا لي ظهر المحن هو نفس اليوم الذي أعلن في صباحه نبأ خطوبتي لشقيقة الأستاذ المرشد ، وما كنت منتظرًا منهم إلا أن يقابلوني بالبشر والتهاني والتبريك .

وعبد الحكيم المشبوب العاطفة ، المتصوف ، الشاعر ، البدوي ؛ لم تكن هذه الصدمة لتقف به عند حد إفاقته من غفلته ، ورد رشده إليه فحسب ، بل إنها قذفت به علي الطرف الآخر البعيد ؛ فإذا به يقرر أن يعتزل الناس لأنه فقد الثقة فيهم ؛ فانقطع عن المركز العام وعن غشيان أي مكان آخر ما سوي بيته وعمله ، وهجر أصدقاءه وأحباءه ومعارفه وحتى أهله ، وعكف علي الصيام المتصل والقيام بالليل تكفيرًا عن زلته بإفراطه في حسن الظن بالناس .. ولما طال انقطاعه ومضي أكثر من شهر زرته في بيته أو بمعني أدق في معتكفه وعاتبته علي هذا الأسلوب فقال لي : ما كنت أعتقد إلا أنك آخر من يعاتبني في ذلك ؛ فالذي أفعله الآن إلا تكفير لمخالفتي لنصيحتك . قلت ، ولكن التكفير لا يكون بالانتقال من النقيض إلي النقيض ،وانقطاعك عن المجتمع لا يقل ضررًا عن أنهماكك فيه مندفعًا بغير حدود ، ولكن المطلوب هو التزام الوسط في كل الأمور .. ومازلت به حتى أنهي اعتكافه وصومه ورجع إلي المجتمع ولكن بعد بضعة أشهر قطع في خلالها شوطًا بعيدًا في حفظ القرآن أو لعله أتم حفظه .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، وإنما امتدت آثاره وتشعبت إذ صار عداء للدعوة يظهر في صور مختلفة من ابتعاد عن الدعوة إلي استقالات إلي اعتكاف مجموعات تجتمع في البيوت والكل يشيعون قالة السوء بغير علم ، وكلما وجدوا عدوًا للدعوة لاذوا به وظاهروه عليها متناسبين قول الله تعالي " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينا " . ويبدو أن بسط القرآن لقصة الإفك ؛ وجعلها صدر سورة من سوره ، والإسهاب في سرد تفاصيلها ، وتحليل مواقف الفئات المختلفة فيها ، والتهديد بأقسى العقوبة لمثيريها وللراتعين فيها وحتى للذين يلذ لهم مجرد الاستماع إليها ثم يخرج من ذلك كله بتحذير مزلزل فيقول " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " …

هذا السرد المفصل في أبرز موضع من السورة يوحي بمدي خطورة هذا الأمر كما يوحي بأن الدعوة الإسلامية في مختلف العهود وعلي مر الزمن عرضة لتكرار مثل هذه الحادثة فيها ولذا حذر جل شأنه من تكرارها بقوله " إن تعودوا لمثله أبدًا " وقرن العودة إلي مثلها بالتخلي عن الإيمان بقوله " إن كنتم مؤمنين " ثم أشار لي اهتمامه بالتفصيل والتوضيح لخطورة العواقب بقوله " ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " .

ذلك أن الدعوات الإصلاحية عامة والدعوة الإسلامية خاصة إن هي إلا مجتمعات يتفاعل بعضها مع بعض ، وهذا التفاعل مع اختلاف المشارب ، وتباين البيئات ، وتنوع الآمال ، يؤدي بطبيعته إلي شيء من خلاف في الرأي أو التنافس علي أمل أو تسابق إلي منصب ، وقد يورث مثل ذلك في بعض النفوس الضعيفة العداء ويوقظ فيها الحيطة والحقد … وحين تفكر هذه النفوس الضعيفة في الانتقام من المخالف أو المنافس أو المسابق لا تجد أمامها وسيلة أيسر ولا أسهل ولا أقل تكليفًا من النيل منه بكلمة يرسلونها في عرضه لا تكلفهم شيئًا ولا تقتضيهم جهدًا ولكنها كافية إ1ذا وجدت آذانًا ممن في قلوبهم مرض أن تهدر كرامته وتهوي به في المجتمع إلي الحضيض بل تخرجه من المجتمع منبوذًا .. فإذا كان هذا المنافس ركنًا من أركان الدعوة دعوة انهارت الدعوة بانهياره وقضي عليه وعليهما معًا .

ولقد وقفنا مع الأستاذ المرشد إزاء هذا الهجوم الغادر الوقفة التي يرضاها الله تعالي ولا يرضي سواها ؛ ظننا بأنفسنا خيرًا كما أمر الله عز وجل في هذا الموقف حيث يقول " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين " وكنا كما تمني القرآن الكريم أن يكونه المجتمع الإسلامي إذ يقول : " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " فتولي الله تعالي عنا رد كيد الكائدين في نحورهم وكفي الله المؤمنين القتال وخرجت الدعوة من هذه الفتنة مرفوعة الرأس بأدنى قدر من الخسائر التي هي في حقيقة أمرها تخليص للدعوة من خيال علق بها " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين " .

هذا المنشور نشر في من تراث الإخوان المسلمين. حفظ الرابط الثابت.

2 Responses to قصة الفتنة الأخلاقية المزعومة فى سيرة الإمام البنا رحمه الله

  1. بارك الله فيك شيخنا الفاضل – تفصيل دقيق ورد مناسب على كل من يتطاول على جماعتنا الغراء

أضف تعليق